مجتمع

سجناء لمواجهة كورونا.. !!

الجديدة إكسبريس

عادة ما تفتخر الأمم والدول بمنجزاتها في ميادين التعليم والصحة والعدل والصناعة وبقوة وفعالية أجهزتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية، وهي تحرص في ذلك أيما حرص على أن تظهر بمظهر الأمم والدول المتقدمة والمتحضرة، لذلك عادة ما تجد الواحدة من هذه الأمم أو الدول تتباهى أمام نظيراتها بمثل تلك الانجازات التي حققتها على الصعيد الفكري والعلمي والصناعي والعسكري…

في الوقت نفسه الذي تحرص فيه هذه الأمم وتلكم الدول جاهدة على إخفاء الجانب الذي قد يبدو مظلما من سيرتها، وهو ذلك المرتبط بعدد سجونها وعدد القابعين خلف قضبان هذه السجون، ذلك أن من شأن تسليط الضوء على مثل هذا الجانب من سيرتها أن يضع كل دولة وكل أمة وجها لوجه أمام اختلالاتها الاجتماعية، بدءا من الأمية والجهل وصولا إلى الفقر وسوء توزيع الثروات والمقدرات الاقتصادية.

لكن المشكل المطروح هنا ليس مشكل جريمة وعقاب، فلا مجتمع سيخلو على أية حال من بعض “الارادات الشريرة” بتعبير جون لوك ولو ارتقى هذا المجتمع إلى مصاف المجتمع الفاضل أو المدينة الفاضلة كما وصفها الفلاسفة. لذلك كانت مؤسسة السجن نظريا على الأقل إحدى المؤسسات الاجتماعية الضرورية لتقويم وإعادة تأهيل السلوك الذي انحرف عن القواعد والقيم الاجتماعية.

لكن السؤال المطروح هنا، وهو مربط الفرس في هذه السطور، هو ما ذنب إنسان، وبحكم مهنته، وجد نفسه خلف أسوار السجن، يئن في صمت وهو بين مطرقة النظرة الاجتماعية السلبية التي لا ترى فيه إلا “سجانا” وتحمله المسؤولية المعنوية عن فقد السجين لحريته مادام هو حامل مفاتيح الزنزانة!! ومطرقة الدولة التي تنكرت له منذ زمان وتركته سجينا لأوضاعه النفسية والاجتماعية والمادية المزرية دون أن تكلف نفسها حتى كلمة شكر في حقه عندما توزع باقات الورود والشكر لصالح الأجهزة والقطاعات الأخرى بمناسبة أو بدونها.

لعلكم تعرفون الآن من المقصود بهذه الجمل، نعم إنهم موظفو السجون، هؤلاء الذين لم يبال بهم أحد في يوم من الأيام. فما الذي دفعني إلى ان أتذكرهم الآن؟ إنه ما وقع في ورزازات، حيث استشهد أحد الموظفين العاملين في مؤسستها السجنية، وهو يؤدي واجبه في صمت، و بكل تفان وإخلاص، في هذه الظروف العصيبة التي تمر منها البلاد والعالم قاطبة. إنه الجفاء والحكرة اللذان رأيتهما يلاحقانه هو وزملاؤه وكل العاملين بذلك القطاع وأنا أتابع تغطية الإعلام العمومي لمستجدات جائحة كورونا، فأرى التنويه بالمجهودات المبذولة من طرف أجهزة ومؤسسات الدولة، وهي مجهودات كبيرة ومقدرة على أية حال، خاصة تلك المبذولة من طرف المؤسسات الأمنية والصحية. لكن و في المقابل، من انتبه إلى عناصر المؤسسات السجنية وأطرها، هؤلاء الذين يقبعون منذ مدة طويلة خلف أسوار السجون لا يغادرونها مساهمة منهم بحريتهم في المجهودات التي تبذلها الدولة لتطويق انتشار الوباء.

وهل هناك في الوجود تضحية أغلى من تضحية إنسان بحريته؟ إذا كان البعض يتضايق من الحجر الصحي وهو في بيته ينعم بالمأكل والمشرب ومشاهدة التلفاز بمعية أبنائه، فماذا يقول هؤلاء الموظفون التعساء الذين وجدوا أنفسهم في حالة اعتقال خلف أسوار السجون بلا ذنب وبلا جريمة، فقط استشعارا منهم لخطورة الموقف واستجابة منهم لنداء الوطن بكل نكران للذات يعفيهم من طلب الظهور أمام الكاميرات.

إن كتابة لا تكون ذات معنى أحيانا إلا عندما تنتبه إلى ما هو موجود في الهامش، وهذه السطور حاولت أن تسلط الضوء على أناس كان قدرهم دائما أن يجدوا أنفسهم على الهامش، حتى إشعار آخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: !! المحتوى محمي