مجتمع

في رثاء سي عبد الرحمن … الأشجار تموت واقفة

بقلم : محسن بوفارس

نادرا ما تتملكني الرغبة في الكتابة عن شخص ما، رجلا كان أو امرأة. لكنني اليوم وأنا أكتب، لا أكتب عن شخص ،بل عن حلم أجيال من المغاربة، كم كانت ثقتهم كبيرة في السياسي والنقابي عندما رأوه ممثلا شهما لهم وصاحب مبدأ وقضية.

أكتب عن حلم أجيال من المغاربة ببناء دولة ديمقراطية عصرية ذات سيادة ولكل المغاربة، دولة لا يوجد فيها فاسدون أو محميون .

أكتب اليوم رثاءا لرجل تجسدت فيه كل أحلام الرجال. عن رجل لخص أحلام المهدي وعبد الرحيم وبنسعيد ورجالا آخرين طواهم النسيان ..

أكتب اليوم رثاءا لرجل حزنت عليه أمي كما حزنت عليه كل النساء والرجال ،حزنت عليه وهي المرأة التي لم تجد طريقها إلى المدرسة كالآلاف ولا تعرف ما إذا كان سي عبد الرحمن اشتراكيا أو ليبيراليا .. لكنها وبقلبها الأبيض كالثلج أحست بأن سي عبد الرحمن كان يتكلم دائما عنها وباسمها  يتكلم عن الدولة التي سرقت منها ومن الملايين غيرها وتركتهم يواجهون مصيرهم جوعا وظلما وقهرا ولم تصرف عليهم منذ طفولتهم وحتى الشيخوخة فلسا واحدا.. تلك الدولة التي لم تكن في يوم من الأيام ملكا لهم بل ملكا لحفنة قليلة من الطفيليين ممن كان سي عبد الرحمن يمقتهم ويفضح أوجه مقاومتهم الطفيلية لأفكاره، فلا تستهويه أبدا ثرواتهم المسروقة من أفواه الفقراء ولا مكانتهم الإجتماعية الزائفة المشيدة على جماجم الجياع والمستضعفين.

سي عبد الرحمن، كم تكفيك من زغرودة لكي تلاحق نعشك الطاهر ،وأنت السياسي النبيل والمحترم الذي ما فتئ يعيد الروح إلى المعنى الأرسطي للسياسة بما هي أخلاق أولا وأخيرا، حيث لا يمكن أن يتصدى باسمها لتدبير شؤون المدينة إلا من حمل زادا محترما من الفكر والثقافة . سي عبد الرحمن، لقد جسدت دوما المعنى الحقيقي لرجل العلم والسياسة ضدا على التيار الجارف للميوعة والشعبوية والاستسهال الذي ما انفك ينخر عظامها. وضدا على كل المرتزقة القدامى والجدد الذين لم يفهموا من المكيافيلية سوى أن الغاية تبرر الوسيلة، فلم يقرؤوا تاريخا ولا أدبا ولا فلسفة .دينهم وديدنهم اللصوصية والتآمر والزحف على البطون من أجل التقاط الفتات.

سي عبد الرحمن، بينك وبين المنبطحين القدامى والجدد سنوات ضوئية… سنوات رسمتها خطوط الكفاح من أجل التحرر الشامل، من الاستعمار القديم والجديد. ورسمتها سير النضال، إلى درجة الاستماتة المدهشة، من أجل مغرب حر، متقدم، ولكل المغاربة. حتى دفعت أيها الشهم الثمن غاليا من حريتك واستقرارك الأسري والإجتماعي .

سي عبد الرحمن، كنت دائما عزيز النفس كريما، فزهدت في أموال الدولة حتى المشروعة منها. فتخليت كرما وشهامة عن راتبك الشهري وكافة التعويضات عن مهامك عندما كنت قائدا للحكومة، فلم تقبل أن يدخل جيبك فلس واحد منها وأنت ترى أيها النبيل أمامك حال الجماهير .

سي عبد الرحمن، اشتغلت كثيرا وتكلمت قليلا، وعندما كنت تتكلم لم نكن لنعرف أي حزب هو حزبك، لأنك لم تتكلم يوما باسم العشيرة بل كنت تتكلم دائما باسم الشعب الذي أحبك ولم يكن يغريك يوما صنع مريدين.. سي عبد الرحمن، عشت ورحلت شامخا كما الأشجار، ولم يسجل التاريخ عنك يوما أنك جريت وراء بريق المال والسلطة، ذلك العظم الذي ذلت أمامه الجراء.

سي عبد الرحمن، لا يكفي في حق رثائك أن نسود آلاف الصفحات.. لكنني لا أملك والمصاب جلل سوى أن أترحم عليك كما يترحم عليك الكثيرون وسيترحمون إلى الأبد، كبارا وصغارا ،فلم تكن رجل لحظة ولت وانتهت، بل كنت وستبقى رجل التاريخ الذي جسد صادقا حلم الملايين من المغاربة وترك خلفه وهو يرحل بشرف كبير نورا هاديا لكل سياسي ورجل دولة يحترم نفسه ،ويعرف كيف يكون له مبدأ لا يقايض به مهما كلفه الثمن.  سي عبد الرحمن، ارقد مطمئنا وبسلام وانت ترحل عنا صباح يوم جمعة، إلى عليين ،فإلى الله المشتكى وإليه المصير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: !! المحتوى محمي