مجتمع

مواقف للذكرى وللتاريخ.. الجديدة تحزن لمقتل طبيب فرنسي

عبد الله غيتومي

ذات يوم من سنة 1973 لبست الجديدة السواد ، وخيم على سكانها حزن شديد ، لما شاع خبر بسرعة سريان النار في الهشيم ، لأن الجديدة كانت صغيرة و”ريال من الجاوي كان يبخرها ” كما يقول أهاليها ، مات “لارجيلاطوس” بكى الناس بلوعة شديدة طبيبا فرنسيا يختلف معهم في الجنسية والديانة ، لكنه انصهر معهم بشكل غريب ، يداوي مرضاهم ويتصدق على فقرائهم ويتقاسم معهم سراءهم وضراءهم .

مات “لارجيلاطوس” خرجت الناس من درب القلعة ومن بوشريط والصفاء ودرب البركاوي والملاح وغيرها ، وجاؤوا إلى شارع الحسن الثاني للتأكد من الوفاة ، لما اقتربوا من العيادة بشارع الحسن الثاني ، لاح لهم حشد كبير تتوسطه سيارة شرطة كان يسميها الناس يومذاك “لاراف” وسيارة إسعاف بيضاء اللون بصندوق كبير تشبه اليوم إلى حد كبير شاحنات نقل السقوط ، آنذاك أدرك الناس أن طبيبهم المفضل بل والمحبوب ودعهم إلى غير رجعة ، بكت النساء ولولت أخريات وأغمي على بعضهن ، لقد مات الذي كان يداويهم بعد الله ويسعفهم .

في ذاك الصباح الأسود في تاريخ المدينة ، جاء لارجيلاوطوس إلى عيادته التي كانت تقع بعمارة كان يتواجد فيها لاحقا مكتب الأستاذ عبدالسلام المريني ، طرق الباب فتحت له “مي البتول ” ممرضة كانت تشتغل معه تتولى أيضا الترجمة بينه وبين المرضى ، فيما بعد انتقلت للاشتغال مع الطبيب اليوغسلافي “بوريسلاف بان ” بشارع محمد الرافعي ، دخل لارجيلاطوس مبتسما كعادته لكن هذه المرة مصحوبا بشخص ثان ، يدل لباسه وطريقة حديثه أنه يمتهن هو الآخر الطب ، بعد دقائق فهمت المرحومة البتول ، أنه طبيب جديد سيعوض لارجيلاطوس الذي يستفيد من “كونجي”لزيارة العائلة بالخارج ، واستعرض معه لائحة طويلة للمرضى وكل الأمور التي تهم العيادة ، وكان دائم الإلحاح على شيء وحيد هو أنه مافتىء يوصيه خيرا بالمرضى وذويهم .

في قاعة الانتظار كان يجلس شخص يرتدي “جلابة ضرعة ” لم يكن حديث العهد بالمجىء إلى العيادة أو أنه يراجع الطبيب أول مرة ، بل كانت له زيارات سابقة ، بعد أن انصرف الطبيب الذي سيتكلف بالتعويض ، أصر الشخص على الدخول على لارجيلاطوس ، دفع باب المكتب في البداية ساد صمت رهيب ، لعله ذاك عادة الذي يسبق العاصفة ، تسربت بعده فقرات من حديث فهم منها أن الشخص كان له وصفة دواء مخدر لأنه كان يعاني من اضطراب عصبي ، وبعد أن أكمل الدواء نصحه لارجيلاطوس بالانتقال إلى دواء آخر مخفف التأثيرات ، لكن المريض أصر على مواصلة الدواء الأول وألح في ذلك إلحاحا ، قبل أن يستل سكينا كان يخفيه تحت الجلابية ، وسدد طعنات أصابت طبيب المدينة في مقتل ، ثم فر هاربا بشارع الحسن الثاني وعلى مستوى “باطا” قرب مقهى طارق ، ولمى لاحت له سيارة شرطة ، توقف لحظة وكشف عن بطنه وبنفس أداة الجريمة التي أنهى بها حياة لارجيلاطوس ، سدد طعنات قاتلة هذه المرة لنفسه وخر ميتا .

هذه قصة طبيب أحب المدينة وأحبه أهلها بشكل رهيب ، إنها قمة ثقافة الاعتراف التي يتعين أن تترسخ قوية في قيمنا …. مات لارجيلاطوس شهيد واجب ، لكنه أبدا لم يمت في قلوب الناس ومن عرفوه عن كتب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: !! المحتوى محمي