بقلم حسن فاتح
محمد بلعربي أو “باكل” هو من الشخصيات الجديدية المغمورة في التاريخ، لا يتذكره إلا من رافقه أوعايشه، إنه شخصية عصامية، كان يموت عشقا في الوطن، كتاب حياته مليء بالكفاح والتضحية والنضال والعذاب، عاش مظلوما ومات مظلوما، وحتى بعد رحيله بقي اسمه مظلوما ومطمورا بمدينة الجديدة التي اعطاها من دمه الشيء الكثير.
ولد محمد بن العربي زريق الملقب ب”باكل” بالجديدة، وبالضبط بزنقة المرابطين المتواجدة بحي الصفا، قرب الزاوية الشياظمية، وسط أسرة مكونة من ثلاثة إخوة، أحدهم كان يمارس النجارة وأخت مصابة بالصم والبكم، تابع تكوينه بالمدرسة المهنية الكائنة باعدادية محمد الرافعي حاليا، غير أنه امتلك ثقافة شعبية وروحا وطنية جعلت منه شخصا يقظا، سخيا وصديقا ومربيا للجميع، حتى أن الكثير من الجديديين القاطنين بأحياء أخرى يأتونه الى حي الصفا قصد الجلوس معه والاستفادة منه.
كان محمد بلعربي يرتدي في أغلب حالاته جلبابا وسروالا تقليديا، وعلى رأسه يحط طربوشا أحمر، كما كان يلازمه عكازه الذي يتكأ عليه بسبب إعاقته في رجله التي خلق بها، وبهندامه المتواضع هذا جاور ورافق أكبر الشخصيات الجديدية آنذاك، أكثر منه ثقافة وسمعة، وبسبب هذه العلاقة المهمة استطاع أن يحصل على وظيفة بصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بالدارالبيضاء.
إن كانت مدينة الدارالبيضاء تمتلك “العربي الزاولي” أو “الأب جيكو” في اكتشاف وتكوين العديد من اللاعبين فان لمدينة الجديدة شخصا يدعى “باكل” الذي أفنى روحه في تكوين فرق لكرة القدم المحلية، حيث كان هو الفاعل الرئيسي في وضع الحجر الأساس لفريق الدفاع الحسني الجديدي، وقد سمي بباكل لتشابهه مع فرنسي كان ينشط في فريق المدينة “سبورتينغ مزغان” لكرة القدم.
أكدت العديد من المصادر، أن الفضل كله في تنظيم فرق الأحياء و تنشيطها، وفي البحث عن المواهب و صقلها، يعود بالأساس إلى شخص “باكل” الذي عمل في صمت ونكران الذات، كان مساهما في فريق سبورتينغ مزغان، بعدما كان وراء كل قطع الغيار التي طعمته وعززته على مدى سنوات، وكان أيضا وراء تشتيت فريق الاستعمار هذا وتلاشيه حين أصر على تأسيس فريق الدفاع، لقد كان بارعا في تجميع اللاعبين الموهوبين، وتكوين فريق من المغاربة المسلمين إبان الاستعمار، لينافس به الفريق المزغاني الفرنسي الذي يرؤسه شخص عنصري استعماري اسمه “دوبري”.
وحسب شهادات اللاعبين القدامى، كان بلعربي باكل نعمة الرجل المربي، فعلى يده تعلموا الروح الوطنية والسياسة والتربية وكيف يكونوا رجالا، كما كان يحتهم على متابعة دراستهم، وبفضله تم اكتشاف العديد من اللاعبين الذين أعطوا الكثير للجديدة وللمنتخب المغربي، وبعبقريته كذلك اختار لفريقه اسم الدفاع، نظرا لما تحمله التسمية من معنى في الدفاع عن الوطن، وبفضله أيضا نزح عدد من اللاعبين المهمين من الفريق الفرنسي سبورتينغ مزغان الى تعزيز فريق الدفاع.
حسب اللاعب “بوحدو” قلب هجوم سبورتينغ مزغان سابقا، كان الفرنسيون ينظرون لباكل بأنه شخص عنيد ومنافس شرس لهم في ميدان كرة القدم، وكان يسانده شخص مثقف يدعى حسن بنشعة، جزائري الجنسية، مهنته أستاذ في مادة الفلسفة بثانوية ابن خلدون، كانت علاقته به وطيدة رغم ميولات هذا الأخير السياسية الشيوعية.
لقد كان “باكل” نشيطا في تنظيم الدوريات المحلية، ومن أهمها البطولة الصيفية التي كانت تجرى في شاطئ الجديدة، ومن جملة الفرق التي تكونت وشاركت في هذا الدوري نذكر فرق الدفاع، الحسنية، الرشاد، الهلال، الحياة، الأمل، النجم، المولودية، اليوسفية، الاتحاد، الفتح، إضافة الى فريق النصر المكون من لاعبي سبورتينغ مزغان، وكان يدربهم شخص يدعى “كورجة”، فكانت نهاية الدوري بين فريق الدفاع من حي الصفا وفريق النصر المكون من الفرنسيين.
قام باكل، بكل ذكاء، بتوجيه دعوات الحضور للنهاية الى كافة رؤساء المصالح الإدارية والرياضية والشخصيات الفرنسية، فكان الحضور كثيفا قبل ساعات من انطلاق المباراة، فاصطفت الجماهير المغربية التي تساند فريق “الدفاع”، إلى جاتب مجموعة من الفرنسيين مصطحبين زوجاتهم وأبنائهم لمناصرة فريقهم “النصر”، نظرا لما لهذه المباراة من أهمية في نفوسهم، فامتلأت جنبات الملعب المرسم على رمال الشاطئ بالجماهير وحتى على القنطرة المؤدية الى مقهى “كازينو” الشهير، فكانت المباراة صعبة وحامية الوطيس، سجلت على إثرها الدفاع هدفا قاتلا في آخر الأنفاس، إلا أن عجرفة الفرنسيين جعلتهم يرفضون الهزيمة واحتجوا على الحكم لتنتهي المباراة دون أن تتم.
حسب اللاعب السابق للدفاع “محمد حمين”، وهو إحدى الشخصيات البارزة بالجديدة، عانى السيد “باكل” كثيرا خلال فترة الاستعمار، فقد تم سجنه عدة مرات، بتهم خطيرة ومتنوعة، تارة بسبب اتهامه بتجميع عناصر وتحريضهم ضد الفرنسيين، وتارة بسبب توزيع منشورات تحث على رجوع الملك محمد الخامس من المنفى، وتارة أخرى تم اتهامه بإحراق “بائعة السجائر ” الفرنسية التي كان مقرها بزنقة باستور أمام الباب الرئيسي للمستشفى المدني ” محمد الخامس حاليا”، ومرة أخرى تم اتهامه بأنه كان وراء إحراق مقرات “الراهبات الفرنسيات” بطريق سيدي موسى.
كما تم الهجوم على منزله بحي الصفا، مباشرة بعد المظاهرات المشهورة ضد اغتيال المقاوم التونسي “فرحات حشاد”، نظرا لبروز اسم “باكل” ضمن لوائح خلايا المقاومة، فبادر أخوه “الرداد بلعربي” إلى تخزين جميع الوثائق والرخص المتعلقة بالشباب المنضوين بالفرق المحلية في سرواله التقليدي “القندريسي”، خوفا من أن يتم اعتقال اللاعبين بتهمة معارضة السياسة الفرنسية في كرة القدم، ولم يعترف الرجل بأسمائهم رغم التعذيب الذي لقيه من طرف رجال الشرطة.
لقد كان “محمد بلعربي” لا يهاب المستعمر الفرنسي، وحسب شهادة “عبد الرحمن الطهطاوي” لاعب سابق بفريق الدفاع، كان مفتش الشرطة الفرنسي الشهير “فواما” يتشائم دائما من وجود باكل، ويصرح في كل مرة حينما يصادفه، مستشيطا من الغضب: “هذا الرجل يقلقني … إنه دائما هنا”، ثم يقوم بتقليد مشيته العرجاء، بعدها يصيح “باكل” بالفرنسية Défense Contre Avion في إشارة الى فريقه Défence Club Athletic .
ورغم كل مظاهر التخويف والترهيب لم يتراجع “باكل” عن كرة القدم واعتبرها وسيلته للنضال ومقاومة للمستعمر، فكان الحماس الى جانب أسماء اخرى، وأصبح الصراع والتنافس على أشده في تكوين الفرق، وبزغت نجومية أسماء عديدة ستقول كلمتها في البطولة الوطنية على عهد الاستقلال وفي لقاءات السد المنظمة سنة 1956 لتشكيل مجموعة الفرق الوطنية التي شاركت في أول بطولة مغربية.
أشار “حسن بنشعة”، رفيق باكل، في رسالته الموجهة للصحفي أحمد شهيد قائلا “أسست نادي أتليتيك الدفاع بمعية بلعربي باكل، وقد سماه في الأول المرحوم باكل بإسم “الدفاع”، وأضفت أنا “أتليتيك” لتكتمل التسمية النهائية والرسمية وهي “نادي أتليتيك الدفاع”، وكان ذلك خلال موسم 48 – 47، و بارك فكرتنا المرحوم بلحسن المعروف بلقب “الأب جيكو”، و بما أن باكل كان يتابع دراسته بالمدرسة المهنية بالجديدة فقد أقنع معلمه السيد “فرابار” بأن يترأس نادي أتليتيك الدفاع، نظرا لكونه كان من الفرنسيين الأحرار والمناهضين للاستعمار، والنتيجة تم تنقيلهذا المعلم تأديبيا إلى مدينة الدارالبيضاء.
ومباشرة بعد اجتماع أعضاء مكتب أتليتيك الدفاع بمقهى الرحماني بحي الصفا، ألقي القبض على باكل وعذب عذابا شديدا، بينما كانت سيارات البوليس تجوب ليلا و نهارا حي الصفا لإدخال الرعب في قلوب السكان، و تم استدعاء آباء فتيان أتليتيك الدفاع لمنع أبنائهم من مواصلة التداريب داخل مدرسة النادي تحت طائلة الفصل من الدراسة.
وبعد اجتماعات ماراطونية وعسيرة بمقهى الرحماني بحي الصفا من أجل تقريب وجهات نظر مسؤولي فريقي “الدفاع” و “الحسنية”، حصل الاتفاق النهائي ببيت “عائلة منديب” الكائن بنفس الحي، وتم تأسيس فريق الدفاع الحسني الجديدي سنة 1956 بعد دمج الإسمين معا، وترأس الفريق المرحوم الحاج “إدريس عظمون”، بعدما تم إقصاء باكل والتنكر له، كما تم تشكيل المكتب دونه، فلا معلومات لدينا باستمرار اسم “باكل” ضمن المكتب المسير، وقد فضل “المسكين” الابتعاد عن الفريق حتى وافته المنية بمدينة الدارالبيضاء بطريقة غريبة، كانت الجريمة اللغز في ذلك الزمن، بين الاغتيال والانتحار، فقيدت ضد مجهول.
هل كان إبعاد محمد بلعربي عن مكتب الدفاع الحسني الجديدي بسبب تقربه من حسن بنشعة الشيوعي؟ … أم بسبب وطنيته الكبرى في تأسيس فريق جديدي مغربي بغرض النضال ضد الاستعمار؟ … أم بسبب شخصه المتواضع الذي لا يحب سياسة أخذ ثمن التضحية والكفاح والعطاء؟ … هل كان كل هذا سببا وجيها لمعارضة الجديديين له في ترؤسه لفريق الدفاع الحسني الجديدي؟ … مع العلم أنه كان هو المؤسس الفعلي.
لقد توفي باكل في بداية السبعينيات، وعلى الأرجح سنة 1973، عن سن تناهز 54 سنة، وفي قلبه غصة، تاركا ورائه ثلاثة ابناء من زوجته ابنة البروطو، تضاربت الآراء حول سبب وفاته بين الانتحار والاغتيال، إلا انه رحمه الله كان ذا سمعة طيبة ويحبه كل أبناء الجديدة.
مات محمد بلعربي الملقب بباكل، ولم ينصفه أحدا … حيا أو ميتا، تم ابعاد اسمه عن صفة المقاوم وعن فريق الدفاع، بل يتحاشى البعض عن ذكره حتى في المحافل الرسمية، كثيرون من الجديديين اغتنوا واشتهروا الآن بسبب فريق كان المرحوم سببا في تأسيسه، قلوب هؤلاء عمياء وجاحدة، فكم من شخص تم تكريمه واسم “باكل” أولى بذلك.
مرت 60 سنة على تأسيس الدفاع الحسني الجديدي ولا شيء يذكر في حقه، لقد حان الوقت يا أبناء الجديدة … ويا محبي الدفاع لرد الاعتبار لهذا الرجل، وذلك بتخليد اسم “محمد بلعربي” الشهير ب”باكل” على إحدى المنشآت الرياضية.
عن موقع ذاكرة دكالة